هذا جانب عظيم يجب أن يتحدث عنه الناس، لا سيما في هذه الأيام مع انتشار الدعاوى المضللة التي تسمى حقوق الإنسان، ومع الدراسات الخبيثة التي يسمونها دراسات علم العقوبة وعلم الإجرام، حيث يقررون في الجامعات عندنا في قسم القانون أن العقوبات في الماضي كان الغرض منها هو الإيلام، وأما الآن فإن المجتمعات الحديثة بدأت تفكر في إلغاء العقوبات بالكلية، فهناك اتجاهات اجتماعية وأخلاقية -كما يسمونها- تفكر في إلغاء العقوبات بالكلية، وبعضهم يقولون: هناك عقوبات، ولكن الغرض منها ليس هو إيلام الجاني، بل التهذيب، ولذلك يأتون به ويضعونه في السجن وهو عبارة عن منتزه، فيرى كل شيء، ويعيش وكأنه في بحبوحة لا يحس بأي شيء، ثم تقوم جمعيات حقوق الإنسان وتتفقد السجناء بحيث لا يتعرضون لأي ألم أو إزعاج، وتفرض الضرائب على الناس من أجل ترفيه السجناء بشكل أفضل. وهذا معاندة لحكمة الله تبارك وتعالى، وهو أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين الذي شرع هذه العقوبات وجعلها إيلاماً، ألم يقل الله تعالى: ((
وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ))[النور:2]؟! فقد سماه عذاباً وإيلاماً، فالإيلام مقصود، بدليل أنه أمر أن يشهد العذاب طائفة، فالعذاب والإيلام مقصود هنا، وشهادة الطائفة مقصودة، فيأتي هؤلاء ويقررون على أبنائنا في بلاد المسلمين هذه القوانين والنظم على أن النظريات القديمة تقول: إن الإيلام هو المقصود، وأما الآن فلا مكان لهذه النظريات القديمة، وربما يصرحون، وأحياناً تكون العبارات المكتوبة مهذبة، فيأتي المدرس ويقول: العقوبات الوحشية! يعني أن قطع اليد شيء وحشي، وكذلك الرجم والعياذ بالله، فترسخ الكلمة في أذهان الطلاب، حتى إن الطالب يستوحش حين يرى أحداً يرجم، وينسى ما في هذا من الحكم العظيمة.وكذلك الزنا، ينشر في وسائل الإعلام بكل طريقة حتى يستسيغه الناس، ثم يقال لهم: ما رأيكم فيمن يفعل هذا، أيليق به أن يرجم؟! وحينئذٍ لن يقولوا: نعم؛ لأنهم قد هان عليهم وسهل. أما عندما يكون الناس قد تربوا على الفطرة النقية والأخلاق الفضيلة فإنهم يرون ذلك من أوجب وأولى ما يكون، ولو لم يشرعه الله، فالعقوبة التي تليق بمن يفعل الزنا أو الفاحشة الأخرى هي هذه. ولهذا حكى
عمرو بن ميمون الأودي رحمه الله -كما في
البخاري - أنه رأى في
اليمن القردة وهي ترجم قردة اكتشفت أنها فعلت مع قرد ما صورته الزنا! وكأنه مركوز في الطباع أنه لا بد من أن يرجم الزاني، وهذا في الجاهلية، وكان الرجم معروفاً قبل الإسلام في
التوراة، وجاء الإسلام ليؤكده. فالمقصود أن هؤلاء الذين يستبشعون الحقيقة هم مخالفون للفطرة، ولكل الشرائع حتى الشرائع القديمة، فكل الشرائع القديمة نستطيع أن نقول: إن لها أصلاً شرعياً، فشرائع الفراعنة القدماء وشرائع الفينيقيين وغيرها لو تأملناها فلن نستطيع أن نقول: إن هذه الشرائع وضعية، بل هناك احتمال أن تكون هذه الشرائع موروثة عن نبوات وعن كتب سابقة، لكن دخلها التحريف، كما غير
اليهود الرجم إلى الجلد والتحميم. فيمكن أن تكون لشريعة
حمورابي أو لشرائع المصريين القدماء وغيرهم أصول من كتب أنزلها الله، وشرائع نبوية لرسل أرسلهم الله تبارك وتعالى، لكن حرفت أو بدلت، وربما تكون هي الشريعة، ولكن نسخت؛ لأن الشرائع تتغير، أما الذي لا يتغير فهو المعتقد والأصل. فالمهم أن هذه الشرائع تقول بهذه العقوبات في أشكال وصور أخرى، وما عهد في تاريخ الإنسانية أن شريعة عامة ملزمة لها شأن واعتبار أقرت الزنا مثلاً، إلا عندما ظهرت الثورة الفرنسية وتمرد الغرب على الدين وظهرت قوانين
نابليون ، ومن قبل كانت الشرائع تدخلها نواح عنصرية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (
إذا سرق فيهم الشريف تركوه )، لكن الأصل كقانون نظري موجود في جميع الشعوب والأمم التي يمكن أن نسميها أمماً متحضرة، أما الأمم التي تتعاطى الفواحش فما كانت في التاريخ كله إلا أمماً منحطة، ولذا انحط الغرب إلى دركات الأمم المنحطة، فنجد أن الشكل والمظهر لحياة الأمريكيين والفرنسيين والإنجليز هو نفسه ما تعيشه القبائل الهمجية التي تعيش في أدغال
أفريقيا أو في
حوض الأمازون في
أمريكا الجنوبية أو في غابات
أستراليا أو بعض جزر
أندونيسيا النائية، فالحالة الاجتماعية واحدة، لكن الفرق أن هذا يسكن في عمارة ويركب الطائرة ويقرأ الجرائد ويشاهد التلفزيون، وذلك لا يجد شيئاً، لكن الحياة الاجتماعية والعلاقات الزوجية الأسرية والإباحية والانحلال شيء واحد.إذاً: أين الحضارة؟! إنها مجرد جانب مادي فقط، فلو جئنا بهؤلاء العراة وأسكناهم في
نيويورك وعاشوا مثل الأمريكان بشكل عادي جداً فلن يتغير فيهم إلا المسكن والمركب، وهذه الأمور ليست من جوهر وحقيقة الإنسان.